ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة التاسعة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ ديموقريطس)
ديموقريطس
الأبديري : الفيلسوف الضاحك
Democritus (c.460BC,
c.370BC)
ولد ديموقريطس في مدينة أبديرة التي عرف أهلها بالأغبياء، لكنه لم يكن غبيا و لا أبلها رغم ذلك، فقد سخر على اليونان كلها،
استهزأ بالحماقات البشرية التي سادت في كل المجتمع الإغريقي و ربما في كل مجتمعات
العالم التي زارها.
كتب أنتوني
محاولا تفسير لقب الفيلسوف الضاحك الذي عُرف به
ديموقريطس: " بالنظر من منظورنا الحالي، يتضح أن التفسير الأوقع للقب
الفيلسوف الضاحك هو أن ديموقريطيس كانت له الضحكة الأخيرة، فعلى مر 2400 عام
تفصلنا عنه قبعت مبادئ ديموقريطيس تحت وطأة رفض أفلاطون و أرسطو و الكنيسة لها، ثم
ابتسم له الحظ مع الثورة العلمية في القرن السابع عشر، و ظل مبتسما له منذ ذلك
الحين، في حين ضرب بالنظريات الفيزيائية لأفلاطون و أرسطو عرض الحائط، فالتصور
الحديث للعالم يشبه أفكار ديموقريطيس و أتباعه أكثر من أفكار أي من غيره من
الإغريق."[1]
كان ديموقريطس فيلسوفا رحالة، أحب السفر و
الاكتشاف، دفعه فضوله للاهتمام بميادين معرفية كثيرة، و في هذا الصدد كتب أنتوني
في نمط حياة هذا الفيلسوف:
![]() |
Democritus |
"...قال ديموقريطس ذات مرة إنه يفضل
أن يتوصل إلى تفسير واحد حقيقي عن أن يتوَّج ملكًا على بلاد فارس. وقد حمله فضوله
بعيدًا عن وطنه فذهب به إلى بلاد بابل ومصر وفارس وربما إلى الهند وإثيوبيا. وقد
أنتج بخبرته الواسعة واهتماماته المتنوعة ما يقرب من خمسين رسالة عن موضوعات
مختلفة مثل المغناطيسية والزراعة والموسيقى والرسم وعلم وظائف الأعضاء، وربما
تحدَّثت إحدى رسائله عن كيفية القتال بالدروع، بالإضافة إلى كتبه في موضوعات
فلسفية بحتة. و قد كان شغوفًا بعلم الأحياء، ولكن لم يتبقَّ ممَّا كتبه فيه إلا
القليل، وكذلك الحال مع معظم الموضوعات التي تكلَّم فيها. ويتبقى بين أيدينا 299
قطعةً مفهرسة من كتابات ديموقريطس؛ أي أكثر ممَّا تبقى من كتابات أي فيلسوف قبل
أفلاطون، إلا أن معظمها من كتاباته عن الأخلاق، وبعضها كلمات منفردة قيل إنه كان
يستخدمها. و مع ذلك فإن ما بقِي وخاصة مما كتبه لاحقًا عن النقد يكفي ليبين الخطوط
العريضة للنظرية الذرية."[2]
يقال أن ديموقريطس تعلم من الفيلسوف الإغريقي
ليوكيبوس Leucippus ، الذي يعود له الفضل في تأسيس النظرية الذرية
التي اشتهر بها ديموقريطس فيما بعد، حيث طورها و عبر عنها بطريقته.
من جهة أولى، تُعتبر فكرة الذرات بمثابة
الطرح الجوهري الذي حاول ديموقريطس التعبير عنه، فالذرة Atom عند ديموقريطس صلبة جدا لا
يمكن تقسيمها و لا حتى تدميرها و الأشياء العادية تموت و تتفكك حينما تتناثر
الذرات المكونة لها، و هذا الطرح مشترك بين ليوكيبوس و ديموريقطس معا. لكن من أين
أتت هذه الفكرة أصلا؟ يجيب أنتوني قائلا: " ... ليس ثَمَّةَ ما يشير إلى
إجرائه تجارب على تلك الأفكار أو فحصها (أي فكرة الذرات). وربما استرعت فكرة
الجزيئات الدقيقة انتباه ديموقريطس أثناء تأمُّله للغبار الطائر، فقد قارن الذرات
ذات مرة بذلك الهباء الذي نراه محلِّقًا في الهواء في أشعة الشمس عبر النافذة، أما
عن أشكال الذرات فيبدو تفسيره مقبولا لدى أصحاب المنطق السليم غير المتعلمين إذا
ما تدبروه بحدسهم."[3]
و يضيف أنتوني أيضا: " ويبدو أن
السبب الرئيس الذي قاد ليوكيبوس وديموقريطس للذَّرَّة لم يكُن دليلًا أو برهانًا
وإنما مفارقات زينون بالأساس؛ فقد توصلا إلى استنتاج أن المشكلة في مفارقات زينون
أو في بعضها على الأقل هي أنه افترض أن الأشياء المادية يمكن تقسيمها إلى ما لا
نهاية. لقد افترض زينون بالفعل أنه إذا كانت المواد المعتادة موجودة فإنه يمكن تقسيمها
إلى ما لا نهاية، ثم قال إن هذه الفكرة قد أدَّت في النهاية إلى نتائج عبثية، وهذا
أحد أسباب إنكاره لعالم المنطق السليم. أما ليوكيبوس وديموقريطس فقد اعتقدَا أن إمكانية
تقسيم الأشياء إلى ما لا نهاية قد تكون هي نقطة الضعف في المفارقات، فزينون لم
يقدم أي دليل عليها على أيَّة حال بل افترضها فقط؛ ومن هنا انطلقت كل مفارقاته. وإذا
افترضنا بدلًا من ذلك أن المادة لا يمكن تقسيمُها إلى ما لا نهاية؛ أي إن هناك ما يمثِّل
أصغر مقياس للمادة والذي يستحيل تجزِئته أو تقسيمه، عندها سيتوقف مسار فكر زينون،
أو على الأقل هذا ما اعتقده ديموقريطس وليوكيبوس، وبناء على ذلك طَرَحَا الذرة على
أنها أصغر مقياس للمادة."[4]
إن اهتمام ديموقريطس بفكرة الذرات جعله يتحدث في تلك المرحلة بأشياء غير
مُستوعبة، و بعبارة أخرى، غير مقبولة و ممنوعة، لأنها تضرب في الصفر كل شيء يراه المجتمع اليوناني حقيقة في تلك المرحلة، إنها
ثورة فكرية تعدت إلى أبعد حدود كل ما توصل له الفلاسفة السابقون خصوصا بارمنيدس و
تلميذه زينون، بل حتى إمبيدوكليس و أناكساغوراس فيما بعد. لأن النظرية الذرية لم
تكن بطبيعتها بسيطة و الدليل القاطع على
هذا هو أنها استمرت بعد موت ديموقرطس لسنوات طويلة، لكي تؤكدها الثورة العلمية، أو
بالأحرى لتقول لنا أن ما قاله ديموقريطس حول أن الذرة هي أصل المادة صحيح إلى حد
ما، بمعنى آخر، إن النظرية الذرية التي تحدث عنها ديموقريطس يمكن اعتبارها طرحا "ديموقريطيسيا" فقط، لأن التجارب التي قام بها العلماء في عصر الثورة العلمية أتت
بنتائج أكثر دقة، و يعبر أنتوني عن هذا كالآتي:
" إن الذرات التي هي موضع دراستنا في العصر الحديث ليست هي ذاتها الذرات
التي تحدث عنها ليوكيبوس وديموقريطس رغم أنها من نسلها. أولًا الذرة الحديثة ليست
خالدة أو غير قابلة للتدمير أو صُلبة أو غير قابلة للانقسام، بل إنها تتكون بفعل
العمليات الطبيعية، وتتحلل وتتكون في معظمها من مساحة خالية (فهي مجموعات ضخمة من
الإلكترونات تحيط بنواة صغيرة و غليظة و يمكن شطرها و إعادتها إلى مكوناتها. و قد
خلت كتابات ديموقريطيس من أية إشارة لمعظم أهم الصفات و القوى المستخدمة لوصف سلوك
الذرات، فهو مثلا لم يعرف شيئا عن الشحنات الكهربائية الذي يتناقض سلوكها تماما مع
ما توقعه الإغريق القدماء، مما يزيد الامر سوءا، ففي عالم الكهرومغناطيسية المتماثلان
لا ينجذبان بل يتنافران."[5]
و من جهة ثانية، إن ديموقريطس لم يكن مهتما
فقط بسؤال المادة و أصل الأشياء كما كان الفلاسفة الذين سبقوه، بل اهتمَ بالمجتمع،وهنا تكمن دلالة " الفيلسوف الضاحك"، أي سخريته من الطريقة التي يعيش بها الناس، لقد
أثارت أفكار ديموقريطس في الأخلاق و المجتمع ضجة كبيرة، لدرجة أنه تحدث عن تطور
المجتمع الانساني و أن الأخلاق الانسانية ليست إلا صناعة إنسانية في آخر المطاف، و
هذا ما جعل كتاباته عرضة للحرق و محاولات تفنيدها بأي طريقة لأنها تضرب في معتقدات
تقوم عليها طبيعة الحياة الثقافية في المجتمع اليوناني إن لم نقل المجتمع الإنساني
كله، إنها المعتقدات الدينية و الطرح التقليدي المعروف و السائد بأن الأخلاق
مصدرها الآلهة و هلم جرا في التأويل.
دعى ديموقريطس المجتمع اليوناني إلى استخدام
العقل في كل شيء، لأن العقل هو مصدر السعادة و الاتزان و الاعتدال و الصحة، و أشار
أنتوني لهذا قائلا:
" ...ولكي يكون المجتمع صحيٍّا فهو
يحتاج إلى المكونات نفسها من استقرار واعتدال ونظام. وتعتبر الحضارة — التي تعني
المدينة لدى ديموقريطس — نتاجًا إنسانيٍّا محفوفًا بالمخاطر يمكن أن ينزلق بسهولة
إلى الهمجية مرة أخرى، فإذا ما اختل التناغم والانضباط اللذان تعتمد عليهما
الحضارة فسرعان ما ستختفي الفنون والفلسفة بل والسعادة نفسها. ومن الواضح أن
ديموقريطس قد أخذ تلك المخاطر على محمل الجِدِّ؛ فقد نادى بتطبيق حكم الإعدام على
كل من يهدد بزعزعة استقرار المدينة، فالمجتمع لن يواصل ازدهاره إلا بتوريث الحكمة
والسلوكيات المسئولة للأجيال القادمة بعناية فائقة. ويتناول الكثير من الأجزاء المتبقية من
كتابات ديموقريطس مسألة التعليم؛ إذ اعتبرها مسئولية ثقيلة فكتب قائلًا إن أسوأ
شيء في الوجود هو التهاوُن في تعليم الصغار."[6]
إن ديموقريطس تميز بطريقته الساخرة في
الكتابة و الخطاب، لدرجة يصعب التفريق بينه و بين السفسطائيين ــــ الحركة
التي اشتهرت في اليونان باستعمالها خطابا لغويا تميز بالمراوغة، ولقد أشار أنتوني إلى هذا قائلا:
" يكاد ديموقريطس ينتمي إلى عالم
السفسطائيين ولكن ليس بشكل كلي، وما يفصله عنهم ليس الزمن؛ فقد كان السفسطائيون
يُدَرِّسُون علومهم عندما كان ديموقريطس في سنوات عمره الأولى، إنما فرقهما اختلاف
المصالح المهنية والفكرية. ورغم أن أفكار ديموقريطس قد اتجهت إلى الكثير من
القضايا التي تناولوها بالبحث — بل إنه تناول بالفعل بعض أفكارهم في كتاباته — فقد
سلك طريقًا غير طريقهم."[7]
و نعرض فيما يلي بعضا من أقوال من ديموقريطس
المشهورة:
" إياك
أن تشك في أحد، و لكن كن ماكرا و تجنب الخطر."
" إن
التوبة من عمل السيئات و اقتراف الذنوب و الآثام هي النعمة التي تنقذ الحياة."
" من
يحافظ على نظام سلوكه يحافظ على نظام حياته."
[1] أنتوني جوتليب، حلم العقل، ص 121
[2] نفس المرجع، ص124
[3] نفس المرجع، ص 127
[4] نفس المرجع، ص 128
[5] نفس المرجع، ص 132
[6] نفس المرجع، ص 135
[7] نفس المرجع، ص 137
كارل جبران