ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة السابعة (أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ إمبيدوكليس)
إمبيدوكليس الأكراجاسي:
الأمير المحبوب
Empedocles (c.490bc, c.430bc)
" ظل الإنسان ثلاثين
ألف عام يتِيه بعيدًا عن المكان المبارك حيث تَشَكَّل خلال هذا الوقت على شاكلة
جميع الأشياء الفانية متقلبًا في ألوان الشقاء، وظلت قوى الريح تطارده في أواسط
البحار ثم تقذف به أمواج البحار إلى تراب اليابسة، ثم تلقيه الأرض تحت أشعة الشمس
الحارقة ثم تعيده الشمس إلى دوامات الريح القوية، فظَلَّ في هذا الشقاء تتقاذفه
الأشياء الفانية ولا تقبله. وهذا هو حالِي الذي أعيش فيه الآن؛ فأنا
منفي عن رحاب الآلهة وهائم على وجهي لأنني وثقت يومًا في الصراع الجامح." إمبيدوكليس
كيف نستطيع أن نتحدث عن إمبيدوكليس دون أن
نستعمل أسلوب القصة؟ و كيف لنا أن نصف هذا الفيلسوف دون أن نعود لفيتاغورس؟ أو
بالأحرى، دون أن نجمع كل صفات الفلاسفة الذين سبقوه، نمزجها كلها لنحصل على
إمبيدوكليس ؟ كتب أنتوني محاولا وصفه من خلال وصف طرحه حول أصول الأشياء: "
و لنضرب مثالا على إحدى وصفات إمبيدوكليس اللتان قدمهما من أجل البقاء، فالعظام
تتكون من جزأين من الماء وجزأين من التراب و أربعة أجزاء من النار، و هذه الوصفة
التي قدمها إمبيدوكليس تغرينا بتقديم وصفة شخصية لإمبيدوكليس نفسه، فهو عالم أولي
في جزأين منه، و واعظ فيتاغوري في جزأين آخرين و صانع أعاجيب في جزأ آخر، و لا
يخلو من عجرفة هرقليطس و لو شيئا يسيرا."[1]
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEi9ezMb7CXZc4M8lmeZIZyX-RXxBmJ6sz6RkxAKm0JY3HyTC4guKsQyQTnKmFH7HR513IJtCH8a_Iwztjf3u-olb4U18jYxy5ii2uyNmmYcE24XZdRBZcdXhbZp5AC6HxmIgXCnZBnNtXU/s400/800px-Empedocles_in_Thomas_Stanley_History_of_Philosophy.jpg)
لقد ابتكر هذا الفيلسوف نظرية حول المادة تقوم
على أن جميع الأشياء تتكون من أربع عناصر: التراب و الهواء و النار و الماء، و ليس
لأي منها أفضلية على الأخرى و لكنها تتحد بكميات مختلفة في الأشياء المختلفة. بمعنى أن ليس أصل الأشياء واحد هو ينبوع كل
الحيوات، و ليس الأشياء عديدة و كل شيء منبع حياة نفسه، لقد كان متفقا مع بارمنيدس
إلى الحد الذي وصفه أنتوني قائلا: "
يتفق إمبيدوكليس مع بارمنيدس في فكرة عدم خلق الأشياء أو فنائها و لكنه صاغها بطريقة أفضل قائلا أن جميع الأِشياء
الهالكة لا تولد و لا تفنى بالموت، بل بخلط الأشياء و تبديلها، و الإنسان هو من
أطلق على الأشياء المختلطة اسم الميلاد. و يعتبر هذا حلا وسطا بين بارمنديس و
المنطق السليم، فإمبيدوكليس على استعداد للالتزام بالعرف و الحديث عن الميلاد و
الموت ما دمنا نتحدث في إطار فكرته عن أن الميلاد أو النشوء هو عملية تكوين شيء من
خلال المواد الموجودة مسبقا، و أن الموت أو الفناء لا يعني إلا تفكيك هذه العناصر
و إعادة تجميعها لتكوين شيء آخر، و هذه العناصر في حد ذاتها ليست مخلوقة ولا
يصيبها الفناء."[2]
إن فكرة أصل الأشياء أربعةُ عناصر: ماءُ،
نارُ، هواء و ترابُ، ذهب بها إمبيدوكليس بشكل بارع إلى أبعد الحدود، حيث أن هذه
العناصر الأربعة تمد الوجود للشيء بالاختلاط و التبادل فيما بينها، تماما كوصفة
البقاء التي استهللنا بها المقالة، و لكن أكثر من هذا، إن إمبيدوكليس رأى أن هنالك
قوتين تعتبران بمثابة الواجهة الخفية لهذه العناصر: الحب و الصراع.
و يشرح أنتوني هذا قائلا: " و يرى
إمبيدوكليس أنه في وقت من الأوقات ساد
الحب كل العالم و اجتمعت كل العناصر في
شكل إلهي واحد(ربما يكون الشكل أشبه بشكل الكرة الكاملة عند بارمنيدس) و لكن شوكة الصراع أخذت تقوى و بدأت تفرق بين
العناصر، فرد الحب هذا العدوان الغاشم و استطاع توحيد العالم بما فيه من جبال و
بحار و نجوم و غير ذلك... و يشبه الأمر إلى حد كبير حديثنا عن الانفجار العظيم و
الانسحاق الشديد في علم الكونيات المعاصر، فكما يقول الحكماء اليوم إن المادة و
الطاقة كلتيهما كانتا مضغوطتين بشكل كلي في مكان واحد ثم انفجرتا و تبعثرتا في انفجار
عظيم، و إذا كان الحال كذلك فسيلي ذلك في المستقبل البعيد حركة انعكاسية تسمى
الانسحاق الشديد و سيتجمع فيها جميع الأشياء و يلتصق بعضها ببعض في نقطة واحدة
بفعل قوة الجاذبية. و هذه الفكرة تعادل
انتصار الحب لدى إمبيدوكليس، و لذلك يمكن أن نعتبر تفسير إمبيدوكليس للكون خليطا
من فيزياء ستيفن هوكينغ و الروايات الرومناسية لباربارا كارتلاند."[3]
![]() |
Empedocles cosmic cycle is based on the conflict between love and strife. |
إن المتأمل في فكر الفيلسوف إمبيدوكليس
سيتبادر إلى ذهنه السؤال التالي: إلى أي حد يمكن اعتبار ما أتى به إمبيدوكليس
معرفة أصيلة؟
و قد أجاب أنتوني:"...و يبدو جزء من
قصة إمبيدوكليس بشكل يثير الشك مشابها لبعض التفاسير القديمة و التوقعات العجيبة
للتفاسير الحديثة، وقد رأينا من قبل كيف استفاد الملطيون من المتضادات الأربع(الساخن
و البارد و الرطب و الجاف) أما الصراع لدى إمبيدوكليس فمثله مثل الحرب عند
هرقليطس."[4]
وهذا يشير، بالطريقة التي قال فيها أرسطو ساخرا
:" لم يكن عند إمبيدوكليس ما يكتبه"، إلى أن مصدر المعرفة عند
إمبيدوكليس كان مرتبطا و وثيقا بما وصل له الفلاسفة السابقون، لكن هذا ليس صحيحا
حقا.
إن إمبيدوكليس، كما ذكرنا سابقا، حاول أن يجد
خط الوصل بين نقاط الاختلاف التي اختلف فيها الطبيعيون عن العقلانيون، لقد كان
عالما و في الوقت نفسه كان شاعرا، و كان من جهة أخرى روحانيا. ولعل قصيدتيه
المعروفتين ( سبل النقاء و عن الطبيعة) تشيران بشكل مباشر إلى قدرته على المزج بين
الأنشطة العلمية ( الكيميائية خصوصا) و الأنشطة الروحانية ( أو ما يسمى بمذهب
المساواة الروحانية المرتبط بالفيتاغورسية) من أجل أن يبرهن على صحة أفكاره و
نظرياته.
علاوة على هذا، كان إمبيدوكليس مهتما
بالتفصيل و محاولة استعمال أمثلة واقعية أو لنقل علمية من أجل أن يضفي على أفكاره
طابعا علميا يجعلها صحيحة و مفهومة أفضل من أسلوب بارمنديس. و يقدم أنتوني مثالا
على هذا قائلا:" و من أهم الأليات التي استخدمها إمبيدوكليس في تفسيراته
الميكانيكية نظريته حول المسام و الدفقات، فقد رأى أن جميع المواد تتخللها مسام و
فتحات متفاوتة الأحجام و أن هذه الفتحات تقوم بقذف جزيئات متناهية الصغر، و تقوم
المواد بتبادل هذه الدفقات بصورة مستمرة و انتقائية.."[5]
فمن جهة، كان الفيلسوف إمبيدوكليس، محبا و مهتما بعلم الأحياء،
حيث نشير إلى أنه كان من أوائل الفلاسفة القدماء الذين حاولوا الإجابة على سؤال
تطور الكائنات الحية، تحدث أنتوني هذا قائلا: " اقترب إمبيدوكليس من لب
القضية الجوهرية في علم الأحياء، حيث قال أن جميع المخلوقات (الكائنات الحية) تدين بالفضل لما تحمله من صفات مفيدة و نافعة
إلى حقيقة أنه كان ثمة العديد من أنواع المخلوقات ، و أن الكائنات الغريبة و
المشوهة فشلت في البقاء لأنها لم تكن لائقة لذلك، و أنه لم يتبقى سوى الكائنات
التي كانت لائقة بالبقاء لكي تتكاثر و تملأ العالم."[6] و
كان الطب من جهة أخرى محل اهتمامه الأكبر،
حيث يعود له الفضل في تأسيس أول مدرسة تجريبية في الطب تدعو إلى فن استعمال الحواس
الذي بواسطته سيتضح لكل مُلاحظٍ أن كل شيء واضح، و كتب أنتوني في هذا الصدد : "
بيد أن الطب — أو على الأقل علم وظائف الأعضاء التقليدي — كان محل اهتمامه العملي
الأكبر ( أي إمبيدوكليس) مثلما كانت
الرياضيات هي الشغل الشاغل للفيثاغوريين. لقد غالَى الفيثاغوريون في تعظيم علم الرياضيات
حتى اعتبروا دراسته من أَهَمِّ الوسائل التي تجلِب لهم الخلاص، ويبدو أن
إمبيدوكليس قد عظَّم علم الطب ورفعه إلى هذه المكانة؛ فقد كان الطب على الأقل
يستحوذ على إعجاب العامة أكثر من الهندسة."[7]
و لقد قال إمبيدوكليس نفسه معبرا عن فن
الوثوق بالحواس و في إطار فكرته في الإدراك: "هلمُّوا وكرِّسوا كل
طاقاتكم لملاحظة كيف يبدو كل شيء واضحًا جليٍّا، فلا تُولُوا البصر الثقةَ الكاملة
دون السمع، ولا تُعطُوا السمع أفضلية على اللسان، ولا تسحبوا الثقة عن أيٍّ من
الأعضاء الأخرى، فكلٌّ منها يشق طريقًا للفهم والإدراك، ولكن حاولوا أن تفهموا كل
شيء بوضوح."
هنالك الكثير من الأساطير حاولت وصف شخصية إمبيدوكليس، و لقد استفاد الفيلسوف أرسطو من أفكاره و عدلها مما أضفى عليها الاستمرار و الوصول إلى نطاق واسع من القراء فيما بعد. قيل أنه رمى نفسه في فوهة بركان، قيل الكثير عن كيف مات هذا الفيلسوف، الشاعر، الأمير و الخطيب، لكنه حياته كانت أهم من موته، و كل ما ذكرنا في هذه المقالة حول إمبيدوكليس إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفلسفة اليونانية القديمة كانت بكل ما تحمله الكلمة من معنى: بناءة، جريئة و قوية.
هنالك الكثير من الأساطير حاولت وصف شخصية إمبيدوكليس، و لقد استفاد الفيلسوف أرسطو من أفكاره و عدلها مما أضفى عليها الاستمرار و الوصول إلى نطاق واسع من القراء فيما بعد. قيل أنه رمى نفسه في فوهة بركان، قيل الكثير عن كيف مات هذا الفيلسوف، الشاعر، الأمير و الخطيب، لكنه حياته كانت أهم من موته، و كل ما ذكرنا في هذه المقالة حول إمبيدوكليس إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفلسفة اليونانية القديمة كانت بكل ما تحمله الكلمة من معنى: بناءة، جريئة و قوية.