ينمو التفكير في عقل الإنسان: المقالة السادسة ( أفكار فلاسفة ما قبل سقراط/ زينون)
زينون: طرق المفارقة
Zeno of Elea (c.460 BC/c.430 BC): Zeno’s Paradoxes
اشتُهِرَ زينون الإيلي بمحاولاته القوية في
الدفاع عن أفكار معلمه بارمنيدس، و قد تحدث أنتوني جوتليب عن هذا قائلا:" و
ثمة رواية عن زينون توضح لنا كيف حاول زينون فعل ذلك ( أي الدفاع عن فكر
بارمنيدس)، إذ يروي لنا أفلاطون كيف أن
بارمنيدس و زينون هجرا بلدتهما إيليا قاصدين أثينا ابتغاء حضور مهرجان "
باناثينا الرياضي العظيم" الذي يقام كل أربعة أعوام و تكون فيه عروض
للموسيقى و الشعر و الرياضة و يخصص للإلهة أثينا. و بينما هما هنالك فإذا بهما
يلتقيان بسقراط الذي كان صغيرا آنذاك، فقرأ عليه زينون رسالة كان قد كتبها، فسأله
سقراط عن الكتاب و مضمونه، فأجاب زينون بأنه كتاب يدافع فيه عن بارمنيدس ضد من
يسخرون منه و أنه يرد عليه مستخدما منطقهم نفسه، و ختم حديثه بقوله أن الهجوم هو خير دفاع."[1]
![]() |
Zeno of Elea |
لكن زينون لم يعرف فقط بأنه خليفة بارمنيدس و
الحامل لمشعل فكره و نظرياته، بل إنه أكثر من ذلك كان مشهورا ببراعته في الخطاب و
المحاججة، مما أضفى على فكر بارمنيدس نفسه قيمة جديدة.
لقد حاول زينون التشكيك فيما كان يسمى
بالمنطق السليم الذي انتشر بين الفلاسفة آنذاك، المنطق الذي حاول بارمنيدس نفسه
دحضه، باستخدامه مفارقات كانت غاية في البراعة و الحذاقة، حاول بواستطها توضيح أن
رؤى المنطق السليم قد تقود إلى نتائج غير صحيحة و غير سليمة.
إن مفارقات زينون كثيرة و عديدة، و يعزى هذا
إلى حذاقته في ابتكار الحجج و الألغاز، لكن لم يتبقى منها إلا القليل، إحدى
المفارقات تتحدث عن الحركة و أخرى تتحدث عن فكرة التعددية و هنالك مفارقات عالجت
مسألة الحواس الخادعة.
و تعد مفارقة الحركة من أبرز المفارقات التي
جادل فيها زينون المنطق السليم بخصوص الحركة، كتب أنتوني محاولا وصف هذه
المفارقة:" لنفترض جدلا أن الحركة
ممكنة كما يقول المنطق السليم و على عكس ما يرى بارمنيدس، و لنفترض كذلك على سبيل الإيضاح أن العداء السريع أخيل، ينوي
أن يشترك في سباق للجري خلال المهرجان، و لكن زينون يقول لأخيل إنه قبل أن يصل
لنقطة النهاية يتعين عليه أولا أن يمر بمنتصف الطريق، لابد له أن يقطع مسافة ربع
الطريق، و لكي يقطع هذه المسافة أيضا لابد له أن يقطع مسافة ثمن الطريق، فبدأ
القلق ينتاب أخيل لأن عملية التفكير هذه قد تستمر دون نهاية، و بذلك أقنعه زينون
أنه لا يمكنه أن يقطع أية مسافة على الإطلاق، لأن هذا يقتضي منه قطع نصف المسافة
ثم ربعها ثم ثمنها إلى ما لا نهاية، و من ثم فلا يمكن للسباق أن يبدأ أبدا."[2]
![]() |
The race course paradox |
إن زينون، بطريقة أو بأخرى، كان متمكنا في
استعمال حجة المسافة اللامتناهية في إقناع أخيل بأنه أصلا لن يستطيع إنهاء السباق
أو بالأحرى بدْأهُ، لأن مسافة السباق تتكون من سلسلة من التقسيمات اللانهائية.
لقد جادل زينون الكثير من الفلاسفة أهمهم
سقراط في حقيقة الحركة، و نعلم أن المدرسة الإيلية آنذاك كانت تحاول البرهنة على
عدم وجود الحركة أصلا في الكون، و لا حتى التعدد أو التغير و ما إلى غير ذلك كما
رأينا مع بارمنيدس.
لكن مفارقات زينون رغم براعتها، لم تكن حقا
صائبة و صحيحة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لقد جعلت منه أبا للجدل أو مبتكرَ
الجدل، و هذه ميزة عظيمة لن ينكرها التاريخ حينما نتحدث عن زينون، و قيل أن
أفلاطون اعترف له بهذا بل إنه أشار إلى أن سقراط قد تعلم من زينون نفسه هذه المهارات
في تطوير طريقة الحوار التوليدي التي انفرد بها فيما بعد.
عموما، و بالعودة إلى مفارقة الحركة عند
زينون، يمكن أن نقول بأنها فتحت مجالا واسعا للتفكير في الحركة أكثر من أنها أنهت
سؤال الحركة بأنه لا توجد حركة، كتب أنتوني في هذا الصدد:"...و بذلك فإن
مفارقات زينون بدلا من أن تنبذ فكرة
الحركة من الأساس فإنها تسوي بين الفكرتين بتوجيهنا إلى فهم أكثر دقة لمفهوم الحركة"[3]
لا نعرف لماذا كان زينون مصرا على استخدام
مثل هذه المفارقات الرائعة في إثبات ما يزعمه بارمنيدس صحيحا؟ فهذه المفارقات
بعينها إن فكر فيها زينون ستصيبه بالدهشة و الجنون أكثر من أنها ستدفعه لأن
يقول:" إنني حقا على صواب!"
و هذا ما بينته إنتاجات علماء الرياضيات فيما
بعد، خصوصا مع غوتفريد لايبنتز الذي يعود له الفضل في تأسيس علم حساب التفاضل و
التكامل، الذي خفض بشكل كبير من تأثير جنون فكرة وجود سلسلة من التقسيمات
اللانهائية التي جادل بها زينون و بقيت موضع مجادلة بعده و يمكن أن نقول أنها
تستمر لحد الآن.
و أخيرا، ألم يكن من الأفضل لزينون أن يقول
إن طبيعة الحركة وفكرة اللانهائية تحتاجان لمزيد من البحث بدلا من إنكار حركة
الأشياء بالكلية؟
إن هذا السؤال يشير بطريقة أو بأخرى إلى كم
كان الإيليون و خصوصا بارمنديس و زينون، واثقين بالعقل و بالجدل من أجل الحقيقة
التي زعموا أن مصدرها واحد هو العقل.
كتب أنتوني معبرا عن هذا: " و يعد تحكيم
العقل الذي توصي به إلهة بارمنيدس النصيحة الأفضل ما دامت لا تؤخذ على انها محض توصية لتجاهل الأدلة، بل باعتبارها نصيحة
للتفكير في هذه الأدلة بعقلانية و الاستفادة منها." [4]