قرية العمال


عُدت إلى القرية ـ الوطن، بعد سنوات من الغربة، رومانسيا أو مليئا بالحياة، بدوت للأهالي غريبا، لأنني لم أعد شبيها لأحد، أصبحت ما أريد أن أكون..
في قريتنا، جبل جميل، تزينه المناجم و أكوام الحصى على سفوحه و على القمم، في كل صباح يستيقظ العمال بمختلف الأعمار، صغارا و كبارا، يحملون معهم خبزا و ماء، يجرون أرجلهم نحو المناجم، ليكسبوا قوت يومهم، دراهم لشراء الزيت و السكر و القمح.
في قريتنا، لا أحد يهتم بمعنى أن يكون الإنسان إنسانا، له فؤاد محب و عقل مفكر و أحلام، لقد مات الناس هنا قبل الأوان، المنازل كالمقابر، الأفراد هنا أشباح: يتحدثون لغة ميتة، يمارسون ثقافة ميتة و يتنفسون البؤس، الكل حزين و محطم، الكل لا يرغب إلا في أن يعاني منتظرا قدوم يومه المقدس، حينما يدفن تحت التراب و يقول عنه السكان: لقد كان رجلا طيبا.
 في قريتنا، لا معنى للكتاب، لا معنى للحب، لا معنى للأمل، كل المعاني تبدأ وتنتهي في عبارة: الخبز كرامة الرجال و شرف المرأة في البيت و تربية الأبناء.
في قريتنا، الطبيعة قاسية ، الفصول منعدمة، الجو مكتئب، النهار كابد طويل أكثر من الليل أو بالأحرى لا يوجد ليل، النجوم تخجل من أن تظهر نصاعتها و القمر لا يحب الظهور، الشمس حارقة و الرياح ثقيلة بالرمال، كأنها منطقة من كوكب عطارد، ليست حقا بلادا من بلاد الأرض الحية بالماء و زغردة العصافير.
قررت أن أتمشى في القرية، أكتشف كل شيء يعبر عن كآبتها، ثم فعلت، ما رأيت كان جنونيا، و بدون أية مبالغة، إن الحياة هنا هجينة، الإنسان يعيش بين إكراهين، الأول في التقليد و الثاني في المعاصرة.
بين المنجم و المنزل و المسجد تنسج حكاية أهالي القرية، المنجم تعب،  المنزل استئناس و المسجد أمل.
هنا، المدرسة لا تعرف شيئا عن الأطفال و لا الأطفال يعرفون شيئا عن المدرسة، حضور غائب، بناء غامض لمستقبل الصغار، هذا الغرس الذي لا يسقى بالحب، الأحلام و الحرية، يسقى بالترهيب، تعليم النشء أن الحياة لا ترحم، أن الإنسان ولد كي ينقذ نفسه بنفسه دون أن يتمرد على أجداده.
يستيقظ الطفل صباحا، غالبا مع الثامنة صباحا، يحمل حقيبته التي لا تحتوي على شيء ذي صلة بالطفولة: فضولها، متعة اللعب و فرصة الإبداع...أكثر من أربعة مناهج دراسية، الغاية منها محاربة الأمية، لا أقل و لا أكثر.
لم ألتق طفلا يعرف السماء، نجومها، كواكبها و وساعتها، لم ألتق طفلا يعرف الطبيعة، عناصرها، تاريخها و استقلاليتها عن التمثل الثقافي، لم ألتق طفلا مبدعا، يعرف ذاته، يطورها و يحبها، الصغار في قريتي لا يعرفون شيئا عن أنفسهم، كل ما يعرفون: أسماءهم، عرقهم، و قليلا من الله.
هنا، المستشفى ليس وقاية أو علاجا، إنه رمز خطر الموت، احتمال الرحيل، الناس في قريتي يخافون من المستوصفات، لقد تعلموا أنفا عنهم بأن المرض يعني الموت، من دخل مستشفى  فقد زار قبره و تعرف عليه.
الشاب ليس متمردا: يعرف فؤاده، يعرف عقله، يدرك قوته، يفكر في شق طريق أحلامه، إنه عكس كل هذا، فرد رفع شعار الانتماء: أنا منتوج اجتماعي جديد كيف أستطيع خدمة الجميع؟
حينما يحل فصل الصيف، و هو فصل ثقافي بامتياز، يتزوج الشباب، ليس لأن الزواج  حلمُ حبْ، ليس لأنه إرادة فردين، بل لأنه استمرار للثقافة القروية، بناء لمؤسسة ذكورية جديدة بنظامها الأبوي المعروف منذ الأزل: الرزق على الله و العمل في المنجم قدر محتوم.
الأغلب فقير تقبل فقره إن لم نقل أنتج منه ثقافة، إنه من أبرز ما يتداول بين الأهالي، يعتبرونه قدرا مكتوبا، أصبحوا بسببه شبها واحدا، صورة واحدة لعدم الاكتفاء الذاتي و عدم القدرة على مواكبة مصاعب الحياة، وهذا ما يوضحه المثل القائل : الرزق قليل و طاحت فيه دبانة.
ككل القرى، هنالك مظهر ما من الحداثة، فليس حقا عمال المناجم وحدهم من يعيشون على هذه الأرض الملعونة، هنالك أسيادهم، أسياد أسيداهم، و الحاصلون على العمل في مناجم حديثة، فمما لاشك فيه، المدرسة منجم، المسجد منجم، المكاتب الإدارية مناجم، العمل كيفما كانت صورته: تقليدية أو عصرية، يبقى استغلالا بين عنفه المادي و عنفه المعنوي.
أتساءل: " هل الأفراد في قريتي يَعُون معنى أن يعيش الإنسان تحت عتبة الفقر؟ أن يستيقظ الفرد كل صباح دون أن يفكر في مغزى وجوده؟ و ينام كل ليلة دون أن يفكر في الغد القادم، هل يستحق أن يستعد له من جديد؟ "
غالبا ما نربط القرية بالطبيعة، حيث الحياة تمشي على خطى لا حضارية، حيث لا يوجد وعي أعلى و أرقى، يبحث عن طريقة لجعل الحياة ممكنة و مريحة و عادلة و مبدعة، ففي القرية لا توجد حقا رومانسية إلا في زقزقة العصافير التي لا يكترث لها أحد أصلا إلا غريب جاء إلى هنا لوقت قصير، في القرية لا توجد حضارة و حداثة، الكل شخص واحد: عامل مضطهد لا يعرف إلا كيف يحصل على قوته و يؤمن كوخه و يلد أفرادا جددا، لن يتعلموا في حياتهم سوى أنهم أبناء القرية، قرية العمال، وطن العمال.
ك.ج