المشاركات

آخر ما نشر كارل!

الخطأُ بوصفِه قدَرًا

  ماذا تخُطُّ يدٌ لا نراها على جدارِ أيّامِنا المتقشِّفة؟ مَن علَّمَ الكونَ هذا المصيرَ الذي يمشي معصوبَ العينين؟ ومَن ألقى في قلبِ الفراغ أنّ الخطأَ حقٌّ مكتوبٌ علينا لا يُرَدّ؟ أيُّ إلهٍ هذا الذي يتقلّبُ وجهُهُ في المرايا كلّما حاولنا فهمَه؟ مَن باع للحالمين أسطورةَ اليقين؟ لا أرى إلا ضبابًا يُنجِبُ ضبابًا، ولا أحدٌ … لا أحدٌ يحملُ شفرةَ النهاية . من شقوقِ شكوكي أطلّ، أصرخُ في بئرِ القصيدة : مَن هناك؟ لستُ واثقًا من شيء إلّا ارتباكي . أراني ، يا للمأساة ... واقفًا كرسّامٍ يبتكرُ السّماء، يصنعُ زرقتَها ويَهندسُ الغيمَ بأعصابِه، لكنَّهُ مَسمَرٌ في قاعِ الطين بلا أجنحة .   أراني أشربُ الماءَ لأغسلَ ملحَ الحناجر، غيرَ أنّي لا نبعٌ ولا أعرفُ سرَّ الجريان . أنا الضحيةُ، وأنا الشاهدُ، وأنا التناقضُ النقيّ . كيف أحملُ كلَّ هذا الضوءِ في رأسي بينما قدمايَ مُغرِستانِ في العتمة؟ ك.ج

بحث عن الغد

ما كان لي خيار آخر، في الحقيقة… أقصد أنني حاولت مرات كثيرة أن أجعل من كل يوم بداية مختلفة، نافذة أطلّ منها على نفسي الحقيقية، أو على ما أرجو أن أصبحه يومًا. غير أنني — رغم تلك المحاولات — أجدني دائمًا محصورًا في المكان ذاته، كأنني أدور في المأزق نفسه بلا نهاية. لا أعرف من أنا حقًا، ولا أعرف ما يجب أن أفعل، ومع ذلك أعرف جيدًا ما أريد… أعرفه إلى درجة تُربكني، كأن معرفتي بمبتغاي لا تكفي لأبلغه، وكأن هناك شيئًا داخلي يقف ضدي، يقنعني بأن ما أرغب فيه أكبر من حقي، أو أنني لا أستحقه أصلًا . ينتابني شعور غريب بأن حياتي يجب أن تكون صراعًا لا يهدأ، جحيمًا أُقاد إليه، وكأنني لم أكبر لأكون حرًا، بل لأتعلّم كيف ألتزم بشروط حياة مستقرة، حياة تُشبه قفصًا أنيقًا لا أكثر. لا أدري كيف أكتب هذا الآن بهذه الجرأة، ربما لأنني تعبت من تكرار المشهد ذاته كل مساء: جعة باردة، سجائر تلتهم الوقت، موسيقى تغسل رأسي من الداخل، دخان يثقل الهواء، حشيش يفتح أبوابًا موهومة للإبداع، وجوٌّ من التحليق الممنوع. جزء مني ينفر من كل هذا، يستنكره، يشعر بالاشمئزاز منه، بينما جزء آخر يستسلم له بإفراط، يغوص فيه كأنه ملجأ، كأنه الص...

مقدمة رواية: في البحث عن كارل

صورة
  هنالك لحظة ما، لا أعرف أين تبدأ بالتحديد، ربما عند تخوم الصمت أو عند حافة سؤال قديم لم يجد طريقه إلى الكلام، لحظة يكتشف فيها الإنسان أن العزلة ليست مجرد انسحاب من العالم، بل هي شكل آخر من أشكال الحقيقة . الحقيقة حين ننزع عن وجوهنا كل الأقنعة التي أنشأها الانتماء — العائلة، العادات، المجتمع، الأفكار الثقيلة التي نولد داخلها — ونكتشف أنفسنا كما نحن: مترددين، هشّين، متشظّين، لكننا في الوقت نفسه أصليّون بصورة لا تتكرّر . في عمر الثلاثين، عند مفترق يبدو بسيطًا من الخارج لكنه متلاطم في الداخل، وجدتني أقف أمام حياتي كمن يعيد النظر في خريطة رسمها بنفسه، لكنه لم يعد يعرف من أين يبدأ خط الرحلة ولا أين ينتهي . قررت أن أكتب . لا كي أروي قصة ناجزة مكتملة، بل لأتتبع قطرة الوعي الأولى التي بدأت تسائلني : من أنا؟ ما الذي تبقى مني حين ينسحب الآخرون؟ وماذا يتبقى مني حين أحاول أن أكون نسخة مناسبة لهم؟ كنت دائمًا أعيش بين فكرتين لا تكفّان عن المنازعة . فكرة تقول إن على المرء أن يثق بصوته الداخلي، أن يتبع حدسه، أن يتحرك بثبات نحو رؤيته الخاصة للحياة، دون أن يعتدي على أحد، ودون أن يختنق من أ...

سيرة مخمور يفكر بوضوح

كثيرًا ما أشعر أنني أعيد تدوير الحياة كعلبة صدئة، أعيد طيّ التجارب مثل ورق لا ينتهي، ألوّن الوجع بألوان أخرى ثم أعود فأبكي بنفس الدمع. كأن القدر لا يملّ من وضع نفس العقدة في طريق كل محاولة جديدة للخلاص. وبدل أن أهرب، أجدني أركض في دوائر أوسع فقط… لكنها لا تزال دوائر . ومع ذلك، الليلة مختلفة. الليلة لا أبحث عن مبررات ولا عن حكم جاهزة. الليلة أكتب لأن هناك شيئًا يتململ في صدري، يريد أن يصعد إلى السطح قبل أن أخون شجاعته غدًا. أكتب لأن السكر يعطيني الحرية التي يخافها عقلي في وضوحه، ولأن الحقيقة — مهما كانت فوضوية — أجمل من الصمت المحترم . أريد أن أتوقف هنا، عند امرأة صنعت لي قلبًا لا يزال يعرف العودة إلى الحب حتى لو تعثر. أمي… صوتها الذي يأتيني عبر تطبيق بارد، يضيء داخلي كنافذة قديمة في بيت طفولتي. أحب كيف تقول كل شيء ببساطة: “انت بخير”، كأنها تعقد صُلحًا خفيًا بيني وبين العالم. تسجيلاتها ليست رسائل… إنها ضوء. ومن يملك الضوء، يملك طريقًا دائمًا، حتى لو تأخر في السير . ثم هناك هؤلاء الذين سكنوا القلب بلا عقد ولا نصوص اتفاق: أحببتهم كطقس قديم، كدين لا يطالبني بشيء سوى الإخلاص. ربما لم ...

ما أخبارها الحياة؟

أسألها كما لو كانت امرأة غامضة تقف عند نهاية شارعٍ طويل، تبتسم بسخريةٍ وتشير بيدها إلى طريقٍ لا أعرف أين يقود. كأنني أبحث عن إشارتها، عن سرّها، عن كلمةٍ واحدة تقولها لتبرّر كل هذا الدوار الذي نحمله في صدورنا. كم يبدو الأمر عبثيًا… نعم، لكن ما أجمل هذا العبث حين يصبح سلاحًا ضد الصمت ! ما أخبارها الحياة؟ هل تضحك الآن من كثرة ما نفتّش في جيوبها عن معنى؟ هل تراقب خطواتي الأولى بعد أن مزّقتُ الخرائط القديمة، وتركتُ خلفي كل زاويةٍ ضيقة كنت أظن أنّني أنتمي لها؟ هل هي فخٌّ أم فرصة؟ أم لعلهما معًا بشكل مدهش وموجع؟ لقد حاولتُ طويلًا أن أبقى عند حدود تجربتي، أن لا أمدّ يدي نحو الأسئلة الحارقة… لكن ألمي كان أكبر من قدرتي على الصمت، وفضولي أقوى من كل وصايا الخوف. كيف لا أهبّ كالريح إذا سمعت همسًا في داخلي يسأل: «من أنت؟ وما معنى ما يجري؟ » لم أستطع أن أتحمّل عار العيش دون أن أفهم ما إذا كان هذا الجسدُ لي وحدي أم هو استعارة عابرة في نصّ أكبر من كل أحلامي . أنا أعلم حجم المخاطرة … منذ اللحظة التي أغلقتُ فيها باب المسجد خلفي، لا بغضًا ولا تمرّدًا، بل بحثًا عن إيمانٍ يشبهني ويُشبه عطشي الأب...

طفلٌ لم يعد في داخلي كما كان

  في مساءٍ لا أعرف من أين جاء، وجدت نفسي أحاول أن أجيب—هكذا ببساطة—عن أسئلة تركها مدير المدرسة، ومعلم الصف الثاني، وكلّ الذين مرّوا بالقرب مني في تلك السنوات التي صارت الآن ضبابًا خفيفًا. كأنني دخلت غرفة قديمة لم تُفتح منذ زمن، وما إن حاولتُ أن أتحدث بصوت الطفل الذي كنتُه، حتى اكتشفتُ أنه لم يعد بإمكاني استدعاؤه. لقد ذهب. صوته تلاشى. وحتى دهشته الأولى لم تعد تملك تلك اللمعة التي كانت تُربكني وتحميني في الوقت نفسه. سنة بعد سنة، أدركتُ أن الزمن لا يعيد أحدًا كما كان، وأنني مهما حاولت فلن أستطيع أن أرجع إلى ذلك الصوت الصغير الذي كان يخجل من كل شيء إلا من أحلامه . وفي الحبّ… آه، الحب. كلما حاولتُ أن أفهم ما حدث لي في تلك التجربة القديمة، أشعر كأنني أغوص في حفرة لا أعرف إن كانت ستوصلني إلى نور، أم ستزيدني عتمة. أحببتُ من قلبي، من مكان عميق جدًا، مكان لم أكن أعرف أنه قادر على هذا القدر من الانفتاح والخوف في اللحظة نفسها. واليوم، حين أحاول الكتابة عنه، أشعر كأنني أعيد ترتيب قلبي حجرًا حجرًا، وأتساءل: هل كنت أبحث عن الحب حقًا، أم كنت أبحث عن جزءٍ ضائع مني؟ لا أعلم. كل ما أعلمه أنّ كل محا...

حكاية الإنسان الذي لم يؤمن

أجلس أحيانًا كمن يطلّ على العالم من مرتفعاتٍ غير ثابتة . كلّ ارتفاع يمنحني زاوية مختلفة، وكلّ زاوية تُغيّر شكل الوجود من حولي، حتى أظنّ أن الكون ليس حقيقةً واحدة، بل احتمالات كثيرة أراها بتبدّل حال الوعي فيّ . في بعض اللحظات أرى الحياة متماسكة، كأنها خيوط سرٍّ عظيمٍ متشابكٍ بعناية، وفي لحظاتٍ أخرى أراها عبثًا جميلًا، كلوحةٍ لم تكتمل بعد، وكلّ منا يضع فيها لونًا ثم يمضي . لقد تعلمت أن أرى نفسي من مستوياتٍ متناقضة — مرةً بعمقٍ يقترب من جوهر الأشياء، ومرةً بسطحيةٍ تثير السخرية من ذاتي . أستطيع أن أتبنّى نظرة الآخر إلى العالم، أن أسكنها، أن أرى من خلالها تفاصيل لم أنتبه لها، ثم أعود إلى نفسي فأرفضها، كمن خلع جلدًا لا يشبهه . أنا هذا التناوب المستمر بين الامتثال والتمرّد، بين الإيمان المؤقت والشكّ الأبدي، بين الاندماج في الرؤية العامة والرغبة في الانفصال عنها . ولعلّي الآن، بعد مسافاتٍ طويلة من التيه، صرت أوقن أن السؤال أثمن من الإجابة . ما عدت أبحث عن “حقيقة كبرى”، بل عن اتساقٍ داخليّ يسمح لي أن أعيش وأنا أعي هشاشتي . لقد انتهى زمن الدهشة الأولى، وبدأ زمن الصراحة مع النفس : أن ...