المشاركات

آخر ما نشر كارل!

تمارين في الحرية

  مع كل يومٍ جديد، أشعر أنني أتعلم من الحياة أكثر مما كنت أظن، لكنّها دروس لا تُشبه التعليم القديم، لا تُلقَّن من الخارج بل تتكوَّن في الداخل، كأنها تُكتَب في الصمت، حين يتوقّف المرء عن الركض ويبدأ بالإنصات . أكتشف أن الحياة لم تتغيّر يومًا، وأنها ليست غامضة كما توهّمت، بل أنا من تغيّرت، أنا من ابتعدت عنها، وانسحبت من دفئها دون أن أدرك . كأنني كنت أعيش على ضفّةٍ بعيدةٍ منها، أراقبها بعين ناقدةٍ لا بعينٍ عاشقة، أفتّش فيها عن المعنى بدل أن أعيشه، أبحث عن اليقين بدل أن أختبره . أحيانًا أقول لنفسي: لم تهرب الحياة منّي، بل أنا من هربتُ منها. ركضتُ خلف أفكارٍ مجرّدةٍ، تصوّراتٍ مثاليةٍ عن الكمال والصفاء، وظننت أن الحقيقة تُوجد في البُعد، في الانعزال، في الهروب من «العادي ». لكنّ العادي كان هو الحياة نفسها، وكان عليّ أن أتعلم أن البساطة ليست ضد العمق، بل طريقٌ إليه . كم من مرة قرأت كتبًا تتحدّث عن الوعي والحرية والذات، وكنت أظن أنني أفهمها! واليوم فقط أدرك أن الفهم لا يتحقق بالقراءة، بل بالعبور: أن تمشي وسط الحياة، أن تتألم وتخطئ وتضيع وتنهض، عندها فقط تبدأ بالمعرفة الحقيقية . ...

احتجاج بلا بوصلة

  إنني كثيرًا ما أتساءل: أيّ عالم هذا الذي نعيش فيه؟ عالم يبدو وكأنه بُني على أساسٍ من الوهم، حيث الحقيقة ليست سوى نسخة مصطنعة، صاغها أصحاب النفوذ بعناية ليبقى الناس تحت قبضتهم. الحقيقة هنا لم تعد بحثًا عن معرفة أو قيمة، بل صارت أداة للهيمنة. أشعر أنني أمام مسرح ضخم، تُوزَّع فيه الأدوار على الشعوب، بينما النص الأصلي مكتوب في مكان آخر لا نراه . في هذا المسرح، يظهر الشباب، بحشودهم، بأصواتهم العالية، بأجسادهم المتدفقة في الشوارع. لكن السؤال الذي لا يفارقني: ماذا يريدون حقًا؟ هل هو تغيير حقيقي للبنية الفاسدة التي يعيشون تحتها، أم مجرد صرخة لإثبات الوجود أمام عالم لا يسمعهم؟ غوستاف لوبون، قبل أكثر من قرن، حذّر من قوة الجماهير حين تتحوّل إلى عقل جمعي فاقد للوعي الفردي. الجماهير قد تُبدع في خلق طاقة للتغيير، لكنها في الوقت نفسه قد تتحوّل إلى أداة هدم لا تدرك ما تفعل . إنني أشعر بالرهبة وأنا أرى الشعارات تُرفع باسم الحرية والعدالة، ثم تنقلب في لحظة إلى تخريب وتكسير. لا يمكن أن يكون التغيير بهذه الطريقة، فالتاريخ يعلمنا أن الخراب لا يلد سوى خرابًا أكبر. الثورة الحقيقية لا تعني أن نحرق م...

حبة سكر على رصيف الوجود

  تتشابك الأفكار في رأسي كما تتشابك خيوط الليل مع الفجر؛ لا أعرف متى تنتهي إحداها لتبدأ الأخرى، ولا أجد فاصلًا بين الصخب والصمت. كأنني أقف وسط طرقان متقاطعة، كل واحدة منها تلمح لي بظلّها ثم تخفي وجهها. أحيانًا أشعر أنني أعيش داخل زحام من مرايا، كل واحدة تعكس صورتي، لكن لا واحدة منها تكشف لي حقيقة ملامحي .   ولم تكن وحدها أسئلة الفكر هي ما أثقلني، بل كانت تلك العاطفة الإنسانية التي تجري في داخلي كأنهار لا تهدأ؛ تصبّ في روحي ولا تمنحها الراحة، تُفيض عليّ بالحنين والقلق معًا، حتى غدوتُ غريبًا في مدينتي الداخلية، غريبًا في وطن القلب . لقد كتبت كثيرًا عن هذا، كتبت حتى صارت الكلمات تشبه صدى أسمعه في كهف قديم. أكتب عن الخلاص كأنني أطارد طيفًا، كلما اقتربت منه، ابتعد عني أكثر. بحثت عنه في الكتب المصفوفة كجنود صامتين، وفي النقاشات التي تُنهك الحناجر وتترك الصمت معلّقًا، وفي السفر حين كنت أظن أن تغيير المكان يعني تغيير المعنى، وفي التأمل حين أغمضت عيني بحثًا عن نور لم يأتِ، وحتى في الأخطاء والتهور والجرأة. ومع ذلك، بعد أكثر من عشر سنوات، ما زلتُ أجد نفسي في الدائرة ذاتها؛ كأن الزمن ...

عيد ميلاد سعيد

  عيد ميلاد سعيد… هكذا تتعانق البدايات مع نهايات صامتة، وهكذا تنفتح أمامي أبواب سنة جديدة، لا كأرقام تضاف إلى تقويم معلق على الجدار، بل كخطوات أخرى في مسير طويل لا أعرف له تمامًا طريقًا ولا خاتمة. إنني أستقبل عامي الثاني والثلاثين كمن يضع كفّه على صدره، محاولًا أن يسمع دقات قلبه بصفاء أكثر، وأن يُنصت إلى الحياة لا بوصفها سباقًا، بل كأنها بستان، أتمشّى فيه ببطء، وأتنفس فيه عطراً خفيفاً يكفي لأن يوقظ دهشتي . لقد تعلّمت أن الكبر في العمر لا يعني فقط عدّ السنين، بل هو أشبه بمرور ضوء خفيف عبر زجاج الروح: يضيئها أحيانًا، ويترك عليها شقوقًا أحيانًا أخرى. في داخلي طفل لم يبرأ من صدمته الأولى أمام اتساع العالم وغرابته، طفل لا يزال يسأل عن جدوى كل هذا، وعن معنى أن نستيقظ كل يوم لنواجه قلقنا وبهجتنا معًا . هذه السنة، أريد أن أكون أكثر قبولًا لضعفي قبل قوتي، وأكثر رفقًا بالآخرين، وأكثر وفاءً لذلك الحلم البعيد الذي يسكنني منذ الصغر. أريد أن أتعلم أن الإصغاء أبلغ من القول، وأن الرحلة أثمن من الوصول . وإن كانت كلماتي لا تستطيع أن تلمس كل ما أعيشه، فإنها على الأقل تحاول أن تصوغ خيطاً يربطني ...

عاشق احتياط

 من الغريب فعلًا أن تبدأ العلاقة بين الرجل والمرأة من مجرد نظرة عابرة، كأن العين تسقط مصادفة على وجهٍ لم يكن حاضرًا في الذهن من قبل، ثم يشتعل شيء داخلي بلا سبب منطقي، فيتحرك الجسد باندفاع لم يستشر العقل فيه، فيبتسم الرجل، يغازل، يمد خيطًا رفيعًا من الكلمات، يطلب رقمًا أو دعوة صغيرة للجلوس معًا، ثم من هذه التفاصيل التي تبدو بسيطة جدًا، يتفتح باب أوسع، باب يفضي إمّا إلى حبٍ غامض، أو إلى متعة جسدية عابرة لا تحتاج إلى مبررات. واللافت أن المجتمع كله يتعامل مع هذه الطقوس وكأنها بداهة لا تحتاج إلى تفسير، وكأنها اللغة المشتركة التي لا مهرب منها. لكن حين تقف بعيدًا، وترى المشهد بعين متأملة، يتضح لك أن الأمر غريب حد الإرباك: كيف لحياة عاطفية كاملة أن تولد من شرارة صغيرة بلا منطق، بلا أساس، بلا تمهيد؟ أنا بطبيعتي انطوائي، ومن هنا تأتي المفارقة. فكرة أن أتحدث مع فتاة لا أعرفها لمجرد أنني انجذبت إليها تبدو لي أشبه بجريمة صغيرة، أو اقتحام غير مبرر لعالمها. يثقلني الشعور بأن أي محاولة كهذه تحمل في باطنها هدفًا جنسيًا، وهذا ما يجعل الخطوة أكثر إرباكًا، كأنها خروج عن نزاهة الذات. ولهذا وجدت نفسي ...

مرساة تعيدك إليّ

 تعالي يا حبيبتي، واقتربي أكثر، لأعانقك… وأسامحك . تعالي يا عزيزتي، واضميني إليكِ، كما تأتي الريح بعد حرِّ يومٍ طويل، كما يدخل الضوء عبر ستارٍ رقيق . كِلانا أخطأ، وتعلّمنا أن الفراق سطّر دروسه فينا، ليعلّمنا قيمة اللقاء، ويعلّمنا كيف نقرأ وجوه بعضنا بلا خوف . إنني منهزم أمام حبك، أضعفُ من أن أحتمل بُعدك، وأقوى من أن أنقض وعدي بلا معنى . ولا شيء يغيّر قدري هذا سوى هذه القصيدة، أضمُّ لكِ فيها وعدي الذي لا يموت، عهداً على شفتيّ، وناراً في صدري . حين أحببتك، لم أكن إنساناً عادياً، كنتِ بوجودكِ تجعلينني ملاكاً، أو كائناً يسمو فوقي . كنتِ أغنيةً ترددها الطرقات، نسمةً تسكت العيون، ونوراً ينتحب في ليلتي . تعالي يا حبيبتي، لأعيد لكِ الوجود على ما كان أجمل . سامحتك … لأن قلبك يخطئ كما يخطئ قلبي . سامحتك … لأن الأيام علّمتنا أن الحبّ أخطر ما فيه الرحمة . سامحتك … لأنني أريد لاحتضاننا أن يبدأ من هذه اللحظة بلا أثر للشتات . تعالي … اجعلي يدي مرسى ليديكِ، وأقف أمامك بكياني الضعيف، أحمل وعداً يغني جروحنا . لنعد معاً إلى حيث بقيت ضحكتك معلّقة، إلى حيث ...

حواريات مارتن و كارل: سؤال يمشي على قدمين

 مارتن: يا كارل، ما أشدّ عصفك بنفسك، كأنك بحر يتناوبه المدّ والجزر في ساعة واحدة. ما عدتُ أعرف أين تقف، في أيّ ضفة، أم أنك تائه في المجرى؟ كارل: يا مارتن، أنا المجرى ذاته. كلما حاولت أن أستكين في حوضٍ صغير، انسكبتُ منه. كبرتُ سنينًا، وها أنا أكتشف أن طفلي المتمرّد لم يكبر معي، بل ما زال يركض في داخلي، يركل جدران عقلي، ويضحك على كل قيد أحاول أن أضعه . مارتن: لكنك تبحث عن السلام، أليس كذلك؟ ألا ترى أن الراحة سبيل النجاة؟ كارل: الراحة موت مقنّع يا صديقي. الراحة سجنٌ جدرانه ناعمة. كلما جلستُ في حضنها، شعرت أنني أُساق إلى قبرٍ بطيء. إنني لا أطيق أن أكون حجراً، ولا أن أُدفن في صمت العاقل. في داخلي نار، وإن حاولتُ إخمادها احترقت أكثر . مارتن: أنت إذن أسير نارك . كارل: بل أنا نار نفسي. أنا الشرارة واللهيب والدخان. كلما أطفأتُ جمرةً في صدري، اشتعلت أخرى. أريد أن أكون سيدًا على نفسي، لكن نفسي تعرف أن تتمرّد عليّ كما لو كانت غريباً يسكنني . مارتن: وماذا بعد هذا الصراع الطويل؟ إلى أين يمضي بك؟ كارل: إلى لا مكان. أو ربما إلى كلّ مكان في وقتٍ واحد. إنني أركض بين ضفاف متناقض...