المشاركات

آخر ما نشر كارل!

البالون الذي أفلت مني

  تمثلين للحياة في حياة واحدة، كأنني أحمل في داخلي مدينتين متناقضتين: واحدة هادئة، طرقها مستقيمة، مصابيحها منظمة، يحكمها عقل يهوى الجداول والتقويمات، يعيش على رتابة رتيبة كأنها موسيقى خلفية لا تنتهي، وأخرى صاخبة، ضاجة بالأسواق والأنوار، تحكمها عاطفة لا تعرف الحدود، تركض في الشوارع حافية القدمين، تريد أن تكون في كل مكان دفعة واحدة، لا تهدأ ولا تكف عن المطالبة بالمزيد. وبين المدينتين، يقف جسدي مثل عامل مطحون يجر العربة بين السوق والمكتب، مرهقًا من الطلبات المتناقضة، فاقدًا لأي عطلة أو مكافأة، مجرد ترس في ماكينة داخلية لا يعرف أحد كيف تعمل. أما أنا فأشعر أنني لست ساكنًا في أي منهما، بل مجرد غريب يطل من نافذة، متفرج على مسرحية عبثية يؤديها ممثلون بلا نص واضح . صارت الأيام عندي نسخًا كربونية، تتوالى مثل أوراق متكررة في ملف قديم: تاريخ مختلف، توقيع مختلف، لكن الختم نفسه حاضر في الزاوية العليا: "ارتباك". أسأل نفسي كل يوم: من الأجدر أن يقودني؟ العقل الذي يزهو بنظامه، أم العاطفة التي تهتف بالحرية؟ وفي كل مرة أظن أنني وجدت الإجابة، أكتشف أنني محامٍ يترافع ضد نفسه في محكمة بلا قضاة ول...

قلب محطم يضيء

  رفعتُ يدي قليلًا، لا لألامس سقف الغرفة، ولا لأجسّ نبض الهواء، بل لأرى كم يمكن لجسدي أن يتباهى أمام الفضاء. لكنني لم أصل إلّا إلى ما فوق عينيّ، والعينان، يا للمفارقة، كانتا تبصران أبعد بكثير مما تبلغه أصابعي. شعرت أن اليد قصيرة مهما امتدت، وأن النظر وحده يملك جناحين خفيين . كنت أجرّب كل شيء بجسدي، كمن يبحث عن أبواب أخرى للمعرفة. أليس الفكر قد أرهقني طيلة هذه السنين؟ مددت عقلي كما يمدّ أحدهم طريقًا في الصحراء، ولم أصل. فقلت: لعل الجسد، بعرقه ونبضه وارتعاشه، يفتح لي منفذًا آخر، منفذًا أصدق من التهويمات المجرّدة . وحيدًا في غرفتي، لم يكن بجانبي سوى الأوراق القديمة والجرائد التي فقدت أخبارها معناها، والكتب التي صارت أثقل من روحي، وجيتارتي التي تصغي أكثر مما تُجيب. أما الموسيقى فكانت تتسلل إليّ كما لو أنني آخر إنسان في الأرض. خوارزميات يوتيوب كانت تختار لي دائمًا جازًا أو جيتارًا كلاسيكيًا، وكأنها تدرك وحدتي وتخاف عليّ من السقوط في صمت أبدي . كنت، وسط هذا الركام، أرغب أن أبوح. أن أركب ظهر الحقيقة لا بالكلمات التي اعتدتها، بل بكلمات تشبه برقًا عابرًا. أردت أن أرسم المستحيل، أن أكت...

أزير… ما تبقى من الزمن

  كان لابد أن لا أنسى تلك اللحظة، حين زارني أخي الصغير في المدينة البعيدة. بدا كأنه جاء من آخر الدنيا، من الجنوب الشرقي بكل ما فيه من جبال وأودية، إلى الشمال الذي يحتضن بحرًا لا يعرف الصحراء. طار بالطائرة، وركب القطار، وجرب كل ما هو متقدم في البلاد، وكأنه يعبر من زمن إلى زمن آخر. لم يكن اللقاء مجرد زيارة أخ لأخيه، بل كان عبورًا صامتًا لذاكرتي، وفتحًا لباب ظلّ مغلقًا طويلًا . وحين مدّ يده من حقيبته، لم يُخرج شيئًا ثمينًا كما يتصور الناس، بل أخرج أغصانًا صغيرة يابسة خضراء. ابتسم وهو يقول: "أزير". في تلك اللحظة، لم يكن الأمر عاديًا؛ أحسست أنني أمام وطن كامل مصغر، أمام مرآة تعكس طفولتي. الرائحة التي تسللت إلى الغرفة لم تكن مجرد عبق نباتي، بل كانت نشيدًا قديمًا، ذاكرة خامدة عادت لتضيء فجأة . أزير... ليس مجرد نبتة. هو الأرض نفسها حين تتنفس. هو طفولتي التي قضيتها بين سفوح مدرار وأي عيسى وعلي، هو الزمن الذي قضيت فيه الصيف أرعى الغنم مع أبناء عمومتي وأبناء أخوالي. نتسكع ساعات في الحقول، لا نفرق بيننا وبين الأغنام، ولا بين لعبنا والتعب. كنا أطفالًا نجرّب الخيال كما نجرّب الخوف: نبت...

حوار مع وردة وحيدة

صورة
  تعالي أيتها الزهرة التي نبتت من قلب التراب، وسقتها الأمطار، ودفأتها الشمس، واحتضنتها الفراشات والنحل. لقد صرتِ شاهدة على معنى العطاء، على أن الحياة لا تُختزل في الأخذ بل في المنح، في الامتداد نحو الآخر دون حساب . أنا إنسان يا وردة، أعيش بين الناس، لكنني كثيرًا ما أشعر أنني غريب بينهم. أعطي ابتسامتي في الطرقات كي لا يثقل الحزن وجوههم، أُصغي لآلامهم كي يخفّ عنهم الحمل، أفتح لهم قلبي كي يجدوا فيه مأوى. لكن حين ينتهي الليل، أجدني وحدي، متعبًا، يلفّني الصمت. أكتشف أنني نسيت أن أُصغي لنفسي، أن أداوي جرحي، أن أبحث عمّن يمنحني أنا أيضًا كلمة حنان . هل يمكن للإنسان أن يكون وردة؟ أن يعيش جماله رغم القسوة، أن يظل معطّرًا رغم الغبار؟ أحيانًا أشعر أنني وردة ذابلة في يد من لا يعرف قيمتها، وأحيانًا أرى نفسي كزهرة وحيدة تنمو في حافة الطريق، يمرّ بها الناس دون التفات، لكنها مع ذلك تواصل التفتّح لأنها لا تعرف غير العطاء . لقد سئمت أن أذوب في كل مرة أعطي فيها. العطاء جميل، لكن لماذا يجعلني هشًّا؟ لماذا يسكنني حزنٌ عميق كلما منحت جزءًا من روحي؟ أليس من حقي أن أبقى حيًّا وأنا أعطي؟ أن أضحك بصدق...

دفتر الهزيمة

 هل انتهى كل شيء؟ سؤال يطاردني منذ زمن. هل وصلت إلى آخر نقطة في الكتابة، إلى حافة الورقة التي لم يعد بعدها شيء؟ هل ما تبقى في قلبي لا يكفي حتى لصياغة جملة جديدة؟ كثيراً ما خطر في بالي أنني أكتب نصاً أخيراً، نصاً يحمل آخر ما تبقى من بقاياي، نصاً يُغلق الدائرة. لكني لا أعرف، لا أستطيع أن أقرر إن كانت هذه النهاية فعلاً أم مجرد وهم صنعه التعب الذي يسكنني منذ زمن بعيد . لقد تعبت . أقولها بلا مواربة، بلا مجاز. تعبت من نفسي، من البحث الذي لا ينتهي عن معنى، من الكتابة التي تحولت أحياناً إلى مرآة تعكس ضعفي أكثر مما تمنحني عزاء. كم مرة قلت في تدويناتي: "تعبت"؟ ربما عشرات المرات، وربما كتبتها بطريقة غير مباشرة أكثر مما كتبتها بوضوح. كأنها لازمة تتكرر، مثل أغنية حزينة لا تنتهي، تعود في كل مقطع بوجه مختلف . لكن التعب ليس وحده ما أعيشه. هناك شيء آخر ينهشني من الداخل: الخوف من النهاية . لقد بدأت الكتابة يوماً ما لأنني أردت أن أترك أثراً، لأنني أردت أن يكون لي صوت في عالم قد لا يلتفت إليّ، عالم قد لا يعرفني إلا إذا قرأ كلماتي. اخترت الكتابة لأني كنت أؤمن أنني يمكن أن أموت جسداً لكن...

أعيش لأنني لم أتعلم الكذب

  أعرف أنني كان من المفترض أن أكون شخصًا عاديًا . أن أعيش مثل بقية الناس: أستيقظ للعمل، أعود مرهقًا، أصلي صلواتي في وقتها، أقرأ وردًا من القرآن كعادة لا كوعي، أقبل رأس أمي وأطمئنها أنني بخير، وأنني مؤمن، مطيع، رجلٌ لا يخرج عن الصف . كان عليّ أن أبتسم لجيراني، أن أزور أقاربي، أن أظهر الاحترام حتى لو لم أشعر به. أن أجلس مع أصدقائي وأمثل دور الشاب المرح الذي يهتم بكل تفاصيل حياتهم التافهة: من تزوج ومن انفصل، من اشترى سيارة، ومن فشل في مشروعه . كان عليّ أن أتقن الكذب . الكذب الأبيض والرمادي والأسود . كان عليّ أن أقول للفتاة التي أختارها: أحبك، سأمنحك حياة سعيدة. ثم أجرها إلى بيتٍ ضيق وأسجنها داخله كأنها متاع من أمتعتي. أتعامل معها كشيء مضاف إلى قائمة أملاكي: مثل الهاتف، مثل حذائي، مثل مقص أظافري. وكان عليّ أن أبرر عنفي وغضبي وقسوتي بأنها "رجولة ". كان عليّ أن أكون مشاهدًا مطيعًا. أن أجلس أمام شاشة التلفاز أو هاتف صغير وأتلقى الأخبار كما يريدون أن تصلني. أن أضحك مع الآخرين من النكات الباهتة، أن أشاركهم السخرية من المفكرين والفلاسفة، أن أردد جملًا محفوظة عن "الحرية...

ماذا بعد يا حكيم؟

  لقد فكّرتُ طويلاً في الرحيل… ليس لأنني أكره الحياة، بل لأنني لم أعد أعرف كيف أعيشها. كل محاولة للانطفاء لم تكن رغبةً في الموت بقدر ما كانت رغبةً في النجاة. كنت أريد أن أضع حدًّا لهذا النزيف الداخلي، أن أجرب الصمت الأخير بعد أن صار كل صمتٍ آخر مزيّفًا .   لقد حاولتُ أن أحيا، صدّقوني حاولت. سرت في طرقٍ كثيرة، جلست في مقاهٍ مزدحمة أحاول أن أشارك الضحكات، لكن الضحك بدا بعيدًا عني. مشيت في شوارع طويلة، والمدينة حولي تعجّ بالأنوار والوجوه، لكنني كنت أشعر كغريبٍ يتسكع في مسرحٍ لم يُدعَ إليه. جلست مع أناسٍ كثيرين، تحدّثوا عن العمل والمال والمستقبل، لكنني كنت أبحث في أصواتهم عن دفءٍ فلم أجده. كل ما حولي أقنعني، بطريقة غير مباشرة، أنني لستُ هنا لأحيا، بل لأثبت لهم أنني حيٌّ فقط إذا متّ .   أكتب الآن لأن الكتابة آخر ما تبقّى لي. أكتب كمن يحاول أن يحفر نفقًا في جدارٍ صلد بظفره. كل حرفٍ هو قطرة من قلبي. أكتب على أمل أن أقرأ نفسي غدًا وأقول: "ها قد وجدت المعنى"، لكنني غالبًا أجد نفسي في الغد أبتسم ابتسامة مُرّة وأسأل: "وماذا بعد يا حكيم؟" لقد اخترت الحكمة، لكنها صارت مرآة ت...